جمال عبد الناصر السلفي ! معتز بالله عبد الفتاح



مستخدما نفس الاداة التحليلية التي استخدمتُها الاسبوع الماضي وهي ال ' counterfactuals ' , التي تتيح لنا العودة الي التاريخ لدراسته بتحييد احد عناصر القوي الفاعلة فيه حتي نتعلم منه , اسال هذا السؤال : ماذا لو كان الرئيس عبدالناصر سلفيا او غير ذلك؟
اجابة هذا السؤال ترتبط باسئلة اخري : ما الذي جعل مصر تُلغي الاحزاب وتؤمّم الصحف التي كانت موجودة قبل ثورة 1952؟ ما الذي جعل مصر تتحول من دولة راسمالية قبل الثورة الي دولة اشتراكية بعد الثورة؟ ما الذي جعل مصر تتبني ايديولوجية القومية العربية ومعاداة الغرب و التقرُّب الي الاتحاد السوفيتي؟ هل للرئيس الراحل دور في هذه الامور , ام انها ترتبط باعتبارات موضوعية كان سيضطر معها اي رئيس الي تبنيها؟

لو رجعنا الي زميل تختتي وصديق طفولتي ' ارنولد توينبي ' وسالناه في هذا الموضوع لذكر لنا منهجه الشهير عن ' التحدي و الاستجابة ' , وهو ان الافراد كما الجماعات كما المجتمعات , تواجه بتحديات ' اي اسئلة كبري ' وهي تختار الاجابة التي تتوافق معها. وحين يُسلِّم معظم مجتمع ما مفاتيح القيادة لشخص او لمجموعة اشخاص تصبح استجابتهم هي استجابة المجتمع باسره. وعليه لو كان الرئيس عبدالناصر يؤمن ايمانا عميقا بتطبيق ' احكام القرآن و السنة علي فهم سلف الامة ' كما يقول اصدقاؤنا السلفيون لكان زمانه مختلفا في هيئته ' ربما اللحية الكثيفة و الجلباب الابيض وعلامة الصلاة البارزة علي جبهته ' وفي سياسته ' ربما توسّع في التعليم الديني , طبّق بعض او كل الحدود وتقارب اكثر مع دول تزعم تطبيق نفس المنهج السلفي وتصبح لنا علاقات تحالف مع دول الخليج بدلا من الحرب الباردة العربية التي عرفتها المنطقة في الستينات ' , وهكذا.

ما حدث في عهد الرئيس عبدالناصر هو تطبيق مباشر لمعني ' الدولة القوية و المجتمع الضعيف ' الدولة هي القائد لدرجة الاستبداد , و المجتمع منقاد لدرجة الاستلاب. ومن هو علي راس الدولة هو بالضرورة علي راس المجتمع , ومن يخالف ذلك او يعترض عليه فمكانه في السجن او القبر او المنفي. وكانت هذه ببساطة دولة محمد علي ودولة رمسيس ودولة خوفو ودولة مينا موحد القطرين.

وهي الحالة التي كان ينطبق عليها القول الشهير : ' الناس علي دين ملوكهم ' , فاذا تحوّل الحاكم من الماجوسية الي الاسلام تحوّل معه شعبه , واذا تحول الحاكم من الراسمالية الي الاشتراكية تحول معه شعبه.

لكن مصر كذلك شهدت مراحل كانت فيها ' جماعات المجتمع اقوي من مؤسسات الدولة ' , وهي المراحل التي كنا ندرسها في التاريخ تحت اسم ' عصور الاضمحلال ' , حيث تنتشر الفوضي وتفقد مؤسسات ورموز الدولة احترامها عند مواطنيها. وعليه لا يكون راس الدولة هو راس المجتمع , لان المجتمع اشبه بغابة بلا اسد , تتقارب فيه الرؤوس فتتناطح. وهذا هو حالنا الآن.

اذن مصر خرجت مع الثورة من حالة الدولة القوية و المجتمع الاضعف الي حالة الدولة الضعيفة و المجتمع الاقوي. حتي ان كانت هذه القوة نابعة من طاقة رفض ونزوع نحو الفوضي , لكن الدولة عاجزة عن ان تستوعبها كما في الديمقراطيات , او تتصدي لها في الاستبداديات. و الغريب انني لا اعرف مرحلة في تاريخنا ينطبق علينا فيها الوضع الامثل , وهو التوازن بين مجتمع قوي ودولة قوية. طبعا هذه الحالة هي الموجودة عادة في المجتمعات الراسخة في الديمقراطية , كما هو الحال في الدول الصناعية الكبري , سواء اوروبا او امريكا او اليابان او الهند. وان كان يسهل عليّ تذكُّر كل فترات الاحتلال الاجنبي التي كانت مصر فيها تعاني من دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف.

وهذا يجعلني اسال , متي وكيف نصل الي هذا الوضع الذي نكون فيه دولة قوية ومجتمعا قويا؟

هذا ليس خيالا علميا , هو ممكن اذا توافرت شروط معينة , ولكن هذه الشروط هي الخيال العلمي ذاته , لانها شروط تحتاج الي نخبة غير النخبة. و المقصود بالنخبة هنا , هم الذين يوكّلهم المجتمع لتصدُّر الطبقة السياسية , حكومة ومعارضة , او الذين يقودون الراي العام في المجتمع ثقافيا واعلاميا. ولنبدا بالشروط , وربنا يسهل في موضوع النخبة.

اولا , جزء كبير من ضعف مؤسسات الدولة يرتبط بعدم قدرة من يقودها علي ان يخلق شراكة حقيقية مع المجتمع الحاضن للدولة. هذه مسئولية الدكتور محمد مرسي كفرد , ومسئولية مؤسسة الرئاسة التي تعمل معه. وسؤالي للدكتور ' مرسي ' : هل حضرتك مفكر سياسي لك رؤية بشان الاجابة عن الاسئلة الكبري التي يواجهها المجتمع؟ هل حضرتك محاط باشخاص لديهم هذا الفكر السياسي و القدرة علي التخطيط الاستراتيجي؟ هل من لديهم هذه القدرات يتم استغلالها , ام تري انهم ليسوا اهل ثقة بما يكفي او اهل خبرة بما يكفي ام حضرتك _وهم_ تعملون بمنطق ' نعدي اليوم بيومه ' و ' يا رب نقضي فترتنا علي خير ' و ' ربنا يعديها علي خير ' ؟

يا دكتور ' مرسي ' : ' غيّر عتبة بابك ووسّع دائرة مستشاريك وحافظ علي وعودك. ولو هناك ما يدعوك الي التراجع عن وعد ما , اخرج وقل للناس اسبابك. وتحرّك من قصرك الرئاسي للالتقاء مع العاملين باجهزة الدولة ورموز المجتمع , زُر المجلس الاعلي للقضاء. زُر الكاتدرائية في العباسية. زُر المصانع التي لم تزل تعمل. التقِ مع اساتذة الجامعات. وابعد عن دائرة صنع قرارك صاحب فكرة الاعلان الدستوري في 22 نوفمبر ' .

ثانيا , الدولة القوية و المجتمع القوي تتطلب ان تتوقف النخبة , الحاكمة و المعارضة , عن لعب دورة ' نخبة الانا ' التي تضع الشخص فوق الموضوع , المصلحة فوق المبدا , تجارة المواقف فوق بناء الوطن. عاتبني صديق بالامس القريب لانني انتقد بعض النخبة بحدة , وهذا صحيح. انا اعتقد انها نخبة فاشلة الا مع استثناءات يستشعر صدقها اصحاب العقول الراجحة. وانتقاد النخبة ينطبق علي تلك التي تحكم وتلك التي تعارض. وان كنت الوم من يحكم اكثر. وقد ضربت من قبل مثلا بموقف النخبة من الدستور. تري النخبة المعارضة انه دستور فاشل فاشي باطل ضائع مائع طائفي مشوّه شيطاني غير دستوري. آه و الله العظيم , احد ' الفقهاء الدستوريين الافتراضيين ' قال عن الدستور انه لا توجد فيه ولا مادة دستورية. فتساءلت , يعني من وضعوه لم يخطئوا حتي في مادة واحدة , وطلعت من غير ما يقصدون دستورية؟ ثم ما معيار ان المواد دستورية او غير دستورية , غير الهوي الشخصي؟

والعجيب ان نفس هذه النخبة تاتي لاحقا لتطالب بتطبيق مواد هذا الدستور الذي سبق ووصفته بانه فاشل فاشي باطل ضائع مائع طائفي مشوّه شيطاني غير دستوري. طيب لماذا تطالب بتطبيقه؟ لان التطبيق فيه مصلحة لها. طيب ولماذا تهاجمه؟ لان الهجوم فيه مصلحة لها.

اذن , هل هو دستور باطل نرفضه ولا نطبق مواده , ام هو دستور غير باطل فنريد تطبيق مواده؟ السؤال بهذه الطريقة منطقي , واقبل اي اجابة منطقية عليه. لكن ان يكون دستورا باطلا نريد تطبيق مواده , فهذا يعبّر عن ' نخبة الانا ' التي ترفض الدستور شوية , ثم تطالب بتطبيقه شوية تانية : مرة عند اختيار النائب العام الجديد , ومرة عند مراجعة قانون الانتخابات البرلمانية وتقسيم الدوائر , ومرة عند حق المسيحيين في بناء كنائسهم , ومرة عند عدم سقوط جرائم التعذيب واهانة المواطنين بالتقادم , ومرة عند الدفاع عن الحق في التعبير , ومرة عند عدم غلق الصحف الا بحكم قضائي , ومرة عند رفض انشاء تشكيلات مسلّحة او شبه مسلّحة تحت اسم اللجان الشعبية. ومع ذلك اتفهم تماما من له تحفظات علي بعض مواد الدستور ويطالب بتعديلها , ولكن يطالب بالتعديل , لا باسقاط الدستور , لادعاء البطولة وتاجيج المشاعر , ثم يطالب بتطبيق مواده في مواضع اخري بمنطق : ' ان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها فاذا هم يسخطون ' . و الكلام كان عن اموال الصدقات و الزكاة.

وهو نفسه المرض عند بعض النخبة الحاكمة التي شاركت في كتابة الدستور , ولا تريد تطبيق مواده عند صياغة القوانين وحتمية موافقة الحكومة علي مشاريع القوانين , وعلي حتمية موافقة المحكمة الدستورية علي مشاريع القوانين التي لها الحق في الرقابة السابقة عليها.

ثالثا , الدولة القوية و المجتمع القوي تتطلب ان تتوقف الحرب الاعلامية و الثقافية الاهلية الدائرة في بر مصر بين كل من يريد ان يفرغ طاقته السلبية امام الكاميرات بمنطق ' يا رب البلد تغرق علشان الاخوان يفشلوا ' . وهي نفس نظرية المراهقة المصرية القديمة التي كان يتمني فيها بعض الصبية من الاهلاوية ان منتخب مصر يُهزم هزيمة نكراء , لان المدرب زملكاوي او بعض الصبية من الزملكاوية الذين كانوا يفكرون بنفس هذه الطريقة . فتُهزم مصر من اجل مصالح بعض الصبية.

رابعا , الدولة القوية و المجتمع القوي ليست دولة الحاكم الاقوي و المجتمع الامّعة الذي يُحسن مع الحاكم ان احسن ويسيء مع الحاكم ان اساء. وهو ما لا نريده , ولكننا مع الاسف نسير اليه. واقع المزايدة النخبوية و الفوضي الجماهيرية يؤكد اننا نستدعي نمط الحاكم المستبد ليحكمنا , لاننا في معارضتنا لمن يحكمنا نناضل ضده ولا نعارضه , ولان من يحكمنا في حكمه لنا لا ينجح في اقناعنا كي نستجيب اليه. النخبة المعارضة تركب الجماهير الغاضبة ولا تقودها , و النخبة الحاكمة تتجاهل الجماهير الغاضبة ولا تستوعبها. وكاننا في حالة انتظار لمجهول لا نعرف ان كان سياتي ام لا.

خامسا , الدولة القوية و المجتمع القوي ليسا مرتبطين فقط بما هو مكتوب علي الورق , سواء كان الدستور او القوانين او الاوامر الرئاسية. القضية في قدرة النخبة الحاكمة و المعارضة علي ادارة توقّعات الناس وبناء خيالهم السياسي , و العودة اليهم في تقرير مصيرهم. سؤال : لو كان الملك فؤاد سلفيا واراد ان يطبّق الشريعة الاسلامية علي فهمه السلفي , هل كان يوجد في دستور 1923 ما كان يمنعه من ذلك؟ لو كان الرئيس عبدالناصر سلفيا واراد ان يطبّق الشريعة الاسلامية علي فهمه السلفي , هل كان يوجد في دساتير 1956 , 1958 , 1964 ما كان يمنعه من ذلك؟ هل لو كان ايٌّ من الرئيسين ' السادات ' او ' مبارك ' سلفيا واراد ان يطبّق الشريعة الاسلامية علي الفهم السلفي , هل كان يوجد في دستور 1971 ما يمنعهما؟ الاجابة يقينا ' لا ' . لكن ما كان يمكن ان يمنعهم هو ان يكون المجتمع بنفس درجة قوتهم كي يرشِّد سلوكهم.

ولكن المجتمع المصري مجتمع وقع في حبائل نخبة سياسية وثقافية واعلامية ليست علي مستوي المازق الذي نعيشه. لذا انصح من يعنيه الامر بالا تنطبق عليه الحكمة التي تقول : احذر ان تكون ممن يسمعون نصف الحديث , ويفهمون ربعه , ويتكلمون اضعافه , لان هذا دليل ضعف , لا دليل قوة في زمن نحن فيه بحاجة الي القوة , لا الي الهتيفة , نخبة ومعارضة.

ليست هناك تعليقات :