' ١ '
ادري ان مصطلح الحالة الاسلامية فضفاض الي حد كبير , لكني اقصد الناشطين في الساحة الاسلاميين وليس كل المسلمين الذين هم جزء لا يتجزا من ' الحالة ' , ولست اشك في ان منهم كثيرين اشد اخلاصا واكثر اسلاما من اولئك الناشطين , ثم انني افهم ان هؤلاء الآخرين ليسوا شيئا واحدا , وان تبايناتهم حاصلة في البلد الواحد ' في مصر 8 احزاب اسلامية غير الجماعات التي يقودها شيوخ مستقلون ' . ليس ذلك فحسب وانما تلك التباينات حاصله ايضا في خبرات الناشطين الاسلاميين في مختلف الاقطار العربية و الاسلامية , ومما يحسب للربيع العربي انه سلط الاضواء علي هذه الخرائط كلها ' اغلبها ان شئت الدقة ' , بحيث اسفر الجميع عن وجوههم فسمعنا اصوات المعتدلين و المتطرفين , و العقلاء و السفهاء , ولاسباب مفهومة احتفت وسائل الاعلام بالمتطرفين و الغلاة , وكانت الحفاوة اشد بكل من ذهب بعيدا في الغلو و الشذوذ.
في مصر وفي تونس وسوريا ابتلي الجميع بالايذاء و الاقصاء , لكن الابتلاء كان اشد بعد الثورة لانه حل بهم من باب الغواية و التمكين , واذا كانت العزائم هي سلاح التصدي للابتلاء الاول , فان الخبرات و العقول صارت السلاح الامضي في التعامل مع الثاني , ان شئت فقل انهم في الابتلاء الاول كانوا يصدون ويقاومون , اما الابتلاء الثاني فقد فرض عليهم التقدم و المبادرة , ولانهم لم يكونوا جاهزين لمواجهة ذلك الموقف الذي فاجاهم في مسار لم يتوقعوه , اذ فرض عليهم اولويات لم تكن في الحسبان , واستدعي ملفات وعناوين ظلت مؤجلة طول الوقت وجلّها يتعلق بكيان الدولة الحديثة ومؤسساتها وباطار التعامل مع الآخر في الداخل و الخارج.
' ٢ '
منذ سبعينيات القرن الماضي علي الاقل , حيث ظهر عنوان الصحوة الاسلامية في الافق ظلت فكرة الدولة عند الاسلاميين محل لغط كبير في بعض اوساط المثقفين العرب فضلا عن الباحثين الغربيين , فقد اعتبرها البعض نموذجا للدولة الدينية التي عرفتها التجربة الاوروبية , ولم تكن العلاقة بين الدولة و الامة واضحة , كما كان شكل الدولة غامضا حتي تحدث البعض عن الامارة وقال آخرون بالخلافة , وكان هناك من يجادل في علاقة الشوري بالديمقراطية , ويتساءل عما اذا كانت الشوري مُعلمة او ملزمة , كما كان الجدل مثارا حول صيغة التعددية السياسية و الموقف الشرعي من فكرة الاحزاب , وطال الجدل مسالة العلاقة مع العالم الخارجي وهل ذلك العالم هو دار الكفر ام دار العهد ام امة الدعوة ' في مقابل ديار الاسلام التي اعتبرت امة الاجابة ' -- .الخ.
وحين قامت الثورة الايرانية وتاسست الجمهورية الاسلامية في عام 1979 , فانها قدمت نموذجا لم يوقف الجدل , لكنه هز بعض القناعات و الانطباعات. اذ قدمت فكرة ' ولاية الفقيه ' صورة جاءت اقرب الي صيغة الدولة الدينية , الا ان الدولة الجديدة وضعت دستورا واقامت مجلسا نيابيا واجرت الانتخابات الديمقراطية علي اكثر من مستوي , فيما غدا تجسيدا قريبا من فكرة الدولة الحديثة , ورغم ان قلة من الباحثين ادركوا ان النموذج الايراني مرتبط بخصوصية المذهب الشيعي ومرجعياته الفقهية , الا ان شبحه ظل يطارد الاسلاميين في مجتمعات اهل السنة طول الوقت , وباتوا يلاحقون بالسؤال عما اذا كانوا يتطلعون الي احتذائه وتطبيقه , ومن ثم عما اذا كانوا يسعون الي اقامة دولة دينية ام مدنية.
الثورات العربية التي تلاحقت في المنطقة منذ عام 2011 استدعت كل الاسئلة المعلقة منذ السبعينيات بما فيها الاسئلة المستجدة التي فرضتها الثورة الاسلامية في ايران , وكان السبب في استدعاء تلك الاسئلة ان التيار الاسلامي فاز بالاغلبية في الانتخابات التشريعية التي اجريت في ثلاث دول علي الاقل هي تونس ومصر و المغرب , وكان علي تلك الاغلبية ان تقدم اجاباتها عليها ان لم يكن من خلال المواقف و الممارسات العملية فعلي الاقل في الناحية النظرية لطمانة المجتمعات التي شهدت تلك الثورات.
اختلف الوضع في اقطار الثورات العربية من عدة نواح , فالثورات كانت وطنية ولم تكن ذات صيغة اسلامية كما في الحالة الايرانية , بالتالي فان الاسلاميين كانوا فصيلا معها فيها وليسوا صناعها او قادتها , ومن ناحية ثانية فان الثورات وقعت في مجتمعات اهل السنة التي تختلف في بيئاتها وهياكلها وتراثها الفقهي عن بيئة المجتمعات الشيعية , ومن ناحية ثالثة فان مجتمعات اهل السنة العربية تحفل بالاجتهادات الفقهية المستنيرة ' من محمد عبده الي القرضاوي ' التي تنحاز الي قيم الدولة الحديثة وفي مقدمتها الديمقراطية و التعددية السياسية , ويعد الازهر في مصر رمزا للمرجعية التي تعبر عن ذلك الانحياز.
' 3 '
قبل عدة سنوات تداول السلفيون في الاسكندرية رسالة كان عنوانها : ' القول السديد في ان الاشتراك في الانتخابات مخالف للتوحيد ' . الا ان الدنيا تغيرت بحيث شكلت الجماعة السلفية في الاسكندرية حزب النور بعد الثورة , وخرج من عباءتها حزب آخر باسم الوطن , وحزب ثالث مشترك بينها وبين الاخوان هو حزب الاصلاح و النهضة , وفي حين كان الاعتقاد الشائع في اوساط السلفيين ان الحزبية مكروهة باعتبارها بابا للفرقة و الفتنة , فقد تشكل في مصر بعد الثورة نحو ثمانية احزاب ' احدثها حزب الراية للشيخ حازم ابواسماعيل ' , وبدا ان بعضها احزاب تمثل الجهة باكثر مما تمثل فكرا مغايرا ' النور في الاسكندرية الشعب في الدقهلية الاصلاح في البحيرة الاصالة و الفضيلة في القاهرة الهدف في 6 اكتوبر ' .
خارج الدائرة السلفية فهناك 8 احزاب اخري تعتمد المرجعية الاسلامية , الامر الذي يعني انه في مصر وحتي اشعار آخر فهناك 16 حزبا اسلاميا كل منها يتطلع الي المشاركة في الانتخابات و الفوز بعضوية مجلس النواب القادم , وهو ما يمكن ان يسوغ لنا ان تقول بان الجدل حول الاحزاب بات محسوما علي الصعيد العملي.
حين دخلت الاحزاب الاسلامية بما فيها السلفية الي ساحة العمل السياسي من باب الانتخابات فذلك يعني عمليا ان الواقع فرض نفسه علي الفكر , ولن نذهب بعيدا اذا قلنا ان الواقع سبق الفكر وصوبه , بالتالي فلم يعد هناك مجال للجدل حول النظام الحزبي و التعددية السياسية , او حول الديمقراطية واختلافها او اتفاقها مع الشوري , كما لم يعد هناك خلاف حول النظام البرلماني ومؤسسات الدولة الحديثة , الامر الذي يستبعد تلقائيا اي حديث عن فكرة الدولة الدينية او دولة الخلافة او صيغة الامارة , وهو ما يسوغ لنا ان نقول ان هذه المشاركة في مجملها كرست فكرة التصالح بين الاحزاب الاسلامية و الديمقراطية , و الدولة المدنية. وهي العلاقة التي ظلت محل جدل ومثار لغظ لم يتوقف خلال العقد الاخير.
لا استطيع ان ادعي ان هذه الامور حسمت تماما , لان ثمة اصواتا لاتزال تشكك في الديمقراطية وترفض التعددية وتتململ من فكرة المواطنة , لكنها تظل اصواتا شاذة لا وزن لها ولا تاثير علي المسار الديمقراطي لان الاغلبية انحازت الي صف الديمقراطية وقيمها وتقدمت للمشاركة في بناء النظام الجديد علي ذلك الاساس.
' 4 '
تصالح الاسلاميين مع الديمقراطية لا يعني ان الامور كلها حسمت لان ثمة تحديات ينبغي عدم الاستهانة بها لاتزال تواجه العقل الاسلامي الذي له دوره في ادارة شئون الدولة بعد الثورة , ولا استطيع في هذا الصدد ان اتجاهل حقيقة ان الاقصاء الذي فرض علي الحالة الاسلامية لم يمكنها من اختبار الافكار علي صعيد الواقع , كما لم يمكن الناشطين من اكتساب الخبرات التي تمكنهم من المشاركة في تسيير ماكينة ادارة الدولة. لذلك لا مفر من الاعتراف بانه في الحالة المصرية وامثالها فان اداء الاسلاميين في ادارة شئون الدولة يبدا من الصفر تقريبا , الامر الذي فرض عليهم اجراء مجموعة من المراجعات الضرورية للكثير من رؤاهم الاستراتيجية واجتهاداتهم الفكرية , وتلك دعوة لا اتفرد بها , لان بعض القيادات الاسلامية التي خاضت التجربة عبرت عن ذلك بصورة او اخري , اذ في مناسبتين منفصلتين قال كل من الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية و الدكتور محمد مرسي رئيس مصر ان الاوضاع التي تعامل معها كل منهما في تونس ومصر , مختلفة واصعب بكثير مما تصوروا في البداية.
واذا جاز لي ان اعرض لبعض ابرز الملفات العالقة و التي يحتاج بعضها الي حسم ويحتاج البعض الآخر الي مراجعة وتصويب ومنها ما يلي :
_ العلاقة بين الدين و السياسة وكيف يمكن ضبط التمايز بين الدائرتين دون انفصال يهدد المرجعية ودون اتصال يعيد الي الاذهان فكرة الدولة الدينية.
_ ترجمة الشعارات الي سياسات تستلهم المرجعية وتستهدف خدمة الناس وتنمية المجتمع متجنبة الاستغراق في وعظ الناس وفرض الوصاية علي المجتمع.
_ تصويب العلاقة بين الجماعة و الوطن , واعتبار الاولي وسيلة لا غاية ينبغي ان تتراجع مصلحتها امام اي مصلحة مرجوة للوطن.
_ رد الاعتبار لفقه المقاصد وتقديمه علي الوسائل , باعتبار ان المقاصد في المرحلة الراهنة تشكل المظلة و الاطار الاوسع الذي يوسع في محيط المشترك مع الآخر , بما يعزز من قيمة الوحدة الوطنية التي تشكل حجر الاساس في ضمان الاستقرار و التقدم للمجتمع.
_ تاصيل فقه العيش المشترك , الذي يسع المخالفين في الراي و المذهب و الاعتقاد , الامر الذي يرد الاعتبار لقيمة المواطنة التي يتساوي فيها الجميع في الحقوق و الواجبات.
_ فض الاشتباك مع التيارات الاخري العلمانية و اليسارية , واستلهام صيغة ' حلف الفضول ' الذي امتدحه النبي عليه الصلاه و السلام حين عقد في الجاهلية لحماية الضعفاء و الانحياز للفقراء.
_ اعمال وتطوير قواعد فقه الاولويات وفقه الانكار , وفي ظل الاول ترتب الواجبات طبقا لمدي اسهامها في تحقيق المصالح العليا للمجتمع التي تقدم علي مصالح الافراد , وبتطوير فقه الافكار توضع ضوابط الاصلاح التي تحملها الدولة وتلك التي يباشرها المجتمع وحدود ما يخص الافراد منها.
_ التعامل الايجابي مع قضية الحريات بما يرفع من سقف الحريات العامة ويحول دون المساس بالحريات الخاصة طالما انها تتم في اطار القانون وبما لا يمس النظام العام للمجتمع.
_ حسم العلاقة مع العالم الخارجي , بما ينهي اللغط المثار حول تكييف تلك العلاقة عند بعض الاسلاميين بما يضعها في دائرة التضاد و التقاطع وليس التوازي او التفاعل و التعاون.
_ _ _
لقد كان البعض يرفعون في السابق شعار الاسلام هو الحل , واخشي اذا تعثرت المسيرة في ظل وجود الاسلاميين بالسلطة ان تنقلب الآية في نهاية المطاف بحيث يصبح الاسلام في نظر البعض هو المشكلة.
' ملحوظة : النص عاليه خلاصة محاضرة دعيت لالقائها في العاصمة الاردنية عمان يوم السبت الماضي ٢/٣ , بدعوة من منتدي مركز دراسات الشرق الاوسط ' .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق