الكشف عن كواليس و أسرار لغز اصدار الاعلان الدستوري



يظل الاعلان الدستوري الصادر في 21 نوفمبر 2012 الماضي و الذي اصدره الرئيس محمد مرسي , الحدث المفصلي الاخطر الذي شهده حكم مرسي حتي الآن , فالاعلان تحول الي لغم انفجر في وجه الجميع ' رئاسة , واخوان , ومعارضة ' , قسم مصر بشكل غير مسبوق , وسالت بسببه دماء لم تتوقف حتي الآن.

برزت خطورة هذا الاعلان فيما تضمنه من اقالة النائب العام السابق المستشار عبدالمجيد محمود , وتحصين مجلس الشوري و الجمعية التاسيسية من البطلان او احكام الحل , والغاء التقاضي في الدعاوي الخاصة بهما في محكمتي الدستورية العليا و القضاء الاداري , وتحصين جميع القرارات الخاصة برئيس الجمهورية واعلاناته الدستورية , وتخويله سلطة اتخاذ اجراءات استثنائية لحماية الثورة , دون تحديد طبيعة هذه الاجراءات.

تلا هذا الاعلان الدستوري الذي الغي جزئيا يوم 8 ديسمبر احداث قصر الاتحادية الاولي التي اسفرت عن مقتل 12 شخصا من تيارات سياسية مختلفة , وتفاقمت الاوضاع بعده ليصبح المشهد غارقا في الاستقطاب بين الاخوان وجبهة الانقاذ الوطني.

وبقيت الحقيقة الكاملة حول كواليس اصدار هذا الاعلان سرا لدي من عاصروا اعداده واصداره فقط , وسيبقي جزء كبير منها مجهولا , حتي بعد نشر هذا الموضوع .


المصادر الستة التي رفضت كشف هويتها لاسباب مختلفة , بعضها مقرب من دائرة صنع القرار , وينتمي البعض الاخر لهيئات قضائية عليا.

واهم ما اتفقت عليه شهادات هؤلاء تفجير مفاجاة بان الاعلان الدستوري كان من بنات افكار اللجنة القانونية لحزب الحرية و العدالة , وليس مستشاري الرئيس , علي عكس قرار عودة مجلس الشعب او اعلان 11 اغسطس بالغاء الاعلان المكمل , وان المسودة الاولي من الاعلان كانت تنص علي خفض سن تقاعد القضاة الي 65 عاما وليس فقط اقالة النائب العام , الذي كان يبلغ من العمر وقتها 66 عاما.

والي تفاصيل ما حدث :

مشهد ' 1 ' -- لجنة في القصر

كان لافتا في ايام اكتوبر ونوفمبر من العام الماضي وجود عدد من اعضاء اللجنة القانونية لحزب الحرية و العدالة داخل قصر الاتحادية اياما عديدة -- ولم يكن حضورهم حتي ذلك الحين معروف الاسباب -- لا سيما في ظل وجود مستشار قانوني لرئيس الجمهورية هو المستشار محمد فؤاد جادالله.

الاعضاء الذين كانوا يحضرون كانوا يجتمعون مع كل من الرئيس شخصيا ومدير مكتبه د.احمد عبدالعاطي , لكنهم لم يكونوا يفصحوا عن المهام التي يؤدونها لاي شخص آخر داخل القصر.

بعض اعضاء اللجنة القانونية لحزب الاخوان تحدث عن مؤامرة يحيكها قضاة داخل المحكمة الدستورية لعزل الرئيس -- علما بان نزاعا قضائيا في الاصل كان قائما ومازال بين المحكمة واثنين من اعضاء اللجنة بسبب اتهامهما للمحكمة بتزوير حكم حل مجلس الشعب , علي عكس ما اثبتت تحقيق النيابة العامة.

حديث ' المؤامرة ' نقله للمحامين الاخوان اشخاص جمعتهم بالفعل جلسات ودية مع احد اعضاء المحكمة الدستورية -- تحدث فيها العضو بصورة مستهترة عن ' امكانية عزل الرئيس محمد مرسي ' حيث قال نصا ' زي ما نصبناه ممكن نعزله ' وهذا حسب رواية المحامين الاخوان التي نقلوها الي رئيس الجمهورية.

عرض الرئيس هذه المعلومات علي عدد من اعضاء الفريق الرئاسي القائم ايامها ورغم ان قضاة المحكمة الدستورية نفوا امكانية ان يتم العزل , وعلي راسهم رئيسها المستشار ماهر البحيري , الاّ ان الاخوان اخذوا الامر بجدية ليصبح الامر سببا وجيها للقيام بخطوة مضادة ضد المحكمة , سواء من الجمعية التاسيسية للدستور او من خارجها.

وبينما اصبح حديث المؤامرة و التوجس من ' الدستورية ' مسيطرا علي الاجواء في قصر الاتحادية , فقد حددت المحكمة في يوم 7 نوفمبر جلسة 2 ديسمبر لنظر قضيتي حل مجلس الشوري وبطلان قانون تحصين الجمعية التاسيسية , و القضية الاخيرة تم الترويج لها وكانها سيترتب عليها حل الجمعية التاسيسية , رغم استحالة هذا عمليا وقانونيا , بحسب مصادر قضائية رفيعة المستوي.

زاد قرار التحديد من قلق الاخوان خاصة في ظل المشاكل التي كانت تتعرض لها الجمعية التاسيسية من انقسامات واستقالات في ذلك التوقيت , لاسيما وان الجمعية لم تكن حتي اقتربت من استكمال القراءة الاولية للمواد , الامر الذي كان يتطلب بالفعل استقرارا لتشكيلها , وعدم تعرضها لهزات اضافية.

وهنا -- في الاسبوع الثاني من شهر نوفمبر -- بدات اللجنة القانونية لحزب الحرية و العدالة تفكر جديا في تصفية المحكمة الدستورية -- او علي الاقل منعها من نظر القضايا المعروضة عليها يوم 2 ديسمبر.

مرسي و القضاة

كانت مواقف الرئيس محمد مرسي من القضاة منذ اليوم الاول لتولي حكمه متحفظة , ولم يكن اختيار المستشار محمود مكي نائبا لرئيس الجمهورية يرمي باي صورة لارضاء القضاة او مغازلتهم , كما حاول البعض تصوير الامر.

وفي الاجتماع الاول الذي دعا اليه الرئيس رؤساء الهيئات القضائية قبل تعيين مكي في موقعه , اكد الرئيس صراحة انه لا توجد اي نية للمساس بالقضاة , في ظل شائعات حول صدور قانون بخفض سن تقاعد القضاة.

وبعد اسبوعين من تعيين مكي في 12 اغسطس , عرض الرئيس عليه مسالة خفض سن التقاعد الي 60 عاما , بصيغة الاستشارة , بحيث يتم التخلص من النائب العام السابق المستشار عبدالمجيد محمود , بشكل قانوني , وايضا من عدد كبير من قضاة المحكمة الدستورية المعروفين بمناهضتهم للتيار الاسلامي وعلي راسهم المستشارة السابقة تهاني الجبالي.

اعترض نائب الرئيس بشدة علي هذا الاقتراح , ولوح بالاستقالة اذا تم اتخاذ هذا القرار , باعتبار انه سبق وطمان بنفسه شيوخ القضاة علي عدم المساس بهم حتي نهاية العام القضائي الحالي في 30 يونيو 3013 علي الاقل واغلق الموضوع بين الرئيس ونائبه.

وعقب تشكيل الفريق الرئاسي , اعيد طرح الموضوع مرة اخري من قبل بعض مستشاري الرئيس في اجتماعات حضرها الرئيس ونائبه , وكان الرئيس يوافق , و النائب يرفض ويحذر من هزة كبيرة في الاوساط القضائية , قد تؤدي لاضطراب شعبي عام.

ومع تزايد المطالب باقالة النائب العام , حدثت واقعة نقله سفيرا في الفاتيكان ثم التراجع عن القرار , واستمرت الرغبة في خفض سن تقاعد القضاة قائمة في حزب الحرية و العدالة.

مشهد ' 2 ' -- نيابة الثورة

في الاسبوع الثاني من نوفمبر بدا التوجه داخل القصر الرئاسي لاصدار اعلان دستوري جديد -- كان في ذلك الوقت سيقتصر فقط علي ' مد عمل الجمعية التاسيسية شهرين ' بتعديل المادة 60 من الاعلان الدستوري القائم آنذاك.

كان المستشار القانوني لرئيس الجمهورية يدعم هذا الامر بشدة , وكذلك اللجنة القانونية بحزب الحرية و العدالة , وكان السند القانوني لهم في ذلك انه من حق الرئيس تعديل المادة رغم سابقة الاستفتاء عليها في 11 مارس , باعتبار ان الاستفتاء تم علي مواد اخري غير التي تم تضمينها فعليا في الاعلان الدستوري , وان الموعد المذكور في هذا النص تنظيمي وليس الزاميا.

كما تم الاتفاق داخل الرئاسة علي انشاء نيابة لحماية الثورة واعادة المحاكمات في جرائم قتل المتظاهرين , وكلف الرئيس مستشاره القانوني بوضع القانون المنظم لهذه النيابة , واعمالها القضائية.

هذا كله كان علي السطح -- اما في الكواليس فكانت اللجنة القانونية بالحرية و العدالة عاكفة علي وضع مواد اخري لتضمينها في الاعلان الدستوري الجديد , الذي كان مخصصا في الاساس لمد عمل الجمعية التاسيسية.

وفي شان النائب العام -- كانت الرئاسة قد استعدت بالتعاون مع المستشار محمود مكي , نائب الرئيس , وشقيقه المستشار احمد مكي , وزير العدل , لسيناريو ما بعد اقالة النائب العام بنقله الي الفاتيكان , باستعراض السيرة الذاتية للعديد من المستشارين , من بينهم معارون الي خارج مصر ونواب لرئيس محكمة النقض ورئيس محكمة استئناف القاهرة , الاّ ان تراجع النائب العام السابق عن موافقته علي الانتقال الي الفاتيكان في اللحظات الاخيرة , اعاق الخطوة الاخيرة في الاطاحة به واعلان اسم النائب العام الجديد , و الذي اختار الرئيس ان يكون المستشار طلعت عبدالله.

اسم المستشار طلعت عبدالله لم يبتعد عن بورصة الترشيحات داخل الرئاسة وبقي المرشح الاقوي لتولي منصب النائب العام , عند اول مناسبة ستحين فيها اقالة عبدالمجيد محمود.

مشهد ' 3 ' -- خلف الستار

اعدت اللجنة القانونية بالحرية و العدالة اعلانا دستوريا كاملا ينص في المادة الاولي منه علي انشاء نيابة حماية الثورة واعادة المحاكمات المتفق عليها بالفعل , وتنص المادة الرابعة منه علي مد عمل الجمعية التاسيسية , وهو ايضا امر كان متفقا عليه داخل القصر الرئاسي.

الاّ ان باقي المواد كانت تحمل مفاجآت كبيرة لاعضاء الفريق الرئاسي و المقربين من الرئيس من خارج الاخوان.

حيث كانت المادة الثانية تنص علي تحصين جميع قرارات واعلانات الرئيس الدستورية من الطعن , حتي لا ترفع قضايا ضد الاعلان امام محكمة القضاء الاداري.

وكانت المادة الثالثة هي الاكثر خطورة حيث كانت تنص علي خفض سن تقاعد القضاة الي 65 عاما , مما يعني التخلص من النائب العام ورؤساء جميع الهيئات القضائية وعلي راسها المحكمة الدستورية العليا , وكذلك 5 من نواب رئيس المحكمة , ليس من بينهم تهاني الجبالي.

وكان سيترتب علي هذه المادة ايضا عدم نظر او اصدار اي حكم من المحكمة الدستورية بشان مجلس الشوري او الجمعية التاسيسية في جلسة 2 ديسمبر 2012. لكن وامعانا في عدم ترك الامر للصدفة وضعت اللجنة المادة الخامسة التي تحظر علي اي جهة قضائية حل مجلس الشوري او الجمعية التاسيسية.

تم عرض مشروع الاعلان الدستوري علي الرئيس خلال ايام القصف الاسرائيلي علي غزة , ووافق عليه مبدئيا , لكنه امر بعرض المشروع ايضا علي كل من مستشاره القانوني ووزير العدل , لاتخاذ الراي فيما يخص اوضاع القضاة.

وفي 21 نوفمبر استطاع الرئيس مرسي تحقيق مكسب استراتيجي وسياسي برعاية اتفاق التهدئة بين اسرائيل وحماس , برعاية ومباركة امريكية , ليصبح المجال مفتوحا لالقاء قنبلة الاعلان الدستوري التي قلبت المشهد السياسي المصري.

وفي مساء اليوم ذاته اعتذر الرئيس عن السفر الي باكستان لحضور القمة الاسلامية , وكلف نائبه محمود مكي بحضورها , استعدادا لتفجير قنبلة الاعلان.

مكي كان يعلم بان شيئا ما يدار بعيدا عنه , لكنه لم يكن يعلم ما هو تحديدا , مع ملاحظة انه كان قد وضع استقالته تحت تصرف الرئيس منذ 7 نوفمبر , وتاكيده علي رفض خفض سن تقاعد القضاة , او الاقدام علي اقالة النائب العام مرة اخري.

مشهد ' 4 ' -- تفجير القنبلة

اللجنة القانونية بالحرية و العدالة انتهت من صياغة الاعلان ووجود عدد من اعضائها في قصر الاتحادية منذ صباح 22 نوفمبر , وتعمد اعضاء اللجنة ابلاغ قيادات الاخوان ببعض بنود الاعلان , وعلي راسها خفض سن تقاعد القضاة , باعتبار ان الامر بات ' حتما مقضيا ' وغير قابل للتعديل.

وبالفعل ابلغت قيادات الاخوان القواعد بضرورة التوجه الي محيط دار القضاء العالي للتظاهر تاييدا لقرارات رئاسية مهمة بشان القضاة , باعتبار ' ان الظهير الشعبي لهذه القرارات مطلوب بشدة ' .

عند الظهيرة , استدعي الرئيس المستشار احمد مكي , وزير العدل , ود.محمد محسوب , وزير الشئون القانونية و البرلمانية , بصورة عاجلة , وجمعت جلسة بينهم وبين بعض اعضاء اللجنة القانونية بالحرية و العدالة و المستشار محمد فؤاد جادالله.

اعترض مكي وجادالله علي خفض سن تقاعد القضاة بشدة , وحذرا من رد فعل القضاة العنيف , واقترحا تاجيل هذه الخطوة لتنفيذها مرحليا بعد نهاية العام القضائي , وبشكل تدريجي , وليس في الوقت الحالي اطلاقا.

المناقشة التي استمرت ساعتين تقريبا انتهت الي الاكتفاء بنص المادة الثالثة الخاص بكيفية تعيين النائب العام الجديد علي ان يكون لمدة 4 سنوات , مع اضافة عبارة واحدة هي ' ويسري هذا النص علي من يشغل المنصب الحالي باثر فوري ' وايد مكي وجادالله هذا الاتجاه , باعتبار ان اقالة النائب العام كانت من المطالب الاساسية للثوار.

وعلي الفور تم استدعاء النائب العام الجديد المستشار طلعت عبدالله لحلف اليمين القانونية , قبل الاعلان رسميا عن اقالة النائب العام , امعانا في السرية , وخشية تكرار سيناريو الفاتيكان. اما عن تحصين مجلس الشوري و الجمعية التاسيسية ووقف التقاضي في دعاوي حلهما -- فقد تحدث بعض الحضور عن عدم الحاجة له وعدم شرعية منع المحكمة الدستورية من نظر اي قضية , الاّ ان اغلبية الحضور المنتمين للحرية و العدالة راوا ان التحصين ضرورة طالما لم يتم خفض سن التقاعد , بحجة ان مجلس الشوري و الجمعية التاسيسية ستكونان في مهب الريح , وستظلان عرضة للحل في جلسة 2 ديسمبر.

ورد بعض الحضور بان قضية الجمعية التاسيسية المعروضة امام المحكمة لن تنتهي باي شكل الي حلها , وانها مجرد منازعة تنفيذ في حكم حل مجلس الشعب , وان اقصي شيء سيترتب عليها هو السماح برفع دعوي جديدة لبطلان تشكيل الجمعية امام محكمة القضاء الاداري , الاّ ان الرئيس ايد وضع المادة تحسبا لاي طارئ.

اما المادة السادسة الخاصة بتوسيع سلطة الرئيس لاتخاذ اجراءات استثنائية لحماية الثورة , فقد اصر عليها الرئيس ايضا , مستندا الي تقارير تؤكد ان التيار الجارف في الشارع يطالبه باتخاذ اجراءات رادعة ضد القوي المعادية للثورة.

كان هذا بعد نحو 10 ايام من تلقي الرئيس تقارير من جهات سيادية عن اجتماعات جمعت رجال اعمال ينتمي بعضهم للنظام السابق في احد الفنادق الكبري , لتنسيق الجهود لزعزعة استقرار حكمه.وتم اصدار الاعلان روتينيا بتاريخ سابق هو 21 نوفمبر لتسهيل تنفيذ القرارات بشكل فوري.

مشهد ' 5 ' -- لا لمد عمل التاسيسية

ثار جدل بين اعضاء الامانة الفنية للجمعية التاسيسية و المستشار حسام الغرياني بعد صدور الاعلان الدستوري حول مد عمل الجمعية التاسيسية , واتصل الغرياني بالرئيس مؤكدا له وقوفه بجانبه وتاييده للاعلان , مع تحفظه علي المد , باعتبار انه ادخل تغييرا علي مادة سبق استفتاء الشعب عليها.

وعلي هذا الاساس الذي اعتبر ان نص المادة 60 من الاعلان الدستوري تضمن فترة الستة اشهر المحددة لعمل الجمعية التاسيسية كموعد الزامي وليس تنظيمي , وبصورة لا يجوز التدخل فيها , تم تجاهل تنفيذ هذه المادة نهائيا , وانهت الجمعية التاسيسية عملها قبل جلسة المحكمة الدستورية المقررة يوم 2 ديسمبر بيومين.

وتحول بعدها الاعلان الدستوري الي كرة لهب حرقت الجميع , ومازالت اثار الحريق موجودة في الشارع السياسي , ولا يدري احد كيف ستنتهي.

ليست هناك تعليقات :