وكانت مصلحة الطب الشرعي قد ذهبت في تقريرها الي ان الجندي مات جراء اصابته في حادث سيارة. اما اللجنة الثلاثية فانها قررت بعد فحص الجثة ان الوفاة نتجت عن التعرض للضرب المبرح علي الجسم و الراس , الامر الذي ادي الي اصابة الجندي بكسور في الضلوع و القدمين , اضافة الي معاناته من نزيف حاد في المخ افقده الوعي لعدة ايام , قبل ان يفارق الحياة.
حسب النص المنشور فان رئيس مصلحة الطب الشرعي الاسبق , السيد ايمن فودة , ارجع ذلك التضارب في التقارير الي قلة الامكانات وغياب الاجهزة المعملية لدي المصلحة.
لان هذا الكلام لم يصوب او يكذب منذ نشره يوم الاثنين الماضي وحتي اليوم , فان ذلك يسوغ لنا ان نتعامل معه باعتباره صحيحا. وهذا الافتراض يسمح لنا بان نقول ان المعلومات الواردة فيه تصدمنا بقدر ما انها لا تفاجئنا. تصدمنا لانها تعطي انطباعا بان مصلحة الطب الشرعي التي هي جهة حكومية برات ساحة الشرطة , في حين ان الخبراء المستقلين و المعينين من الخارج كانوا اكثر حيادا وشجاعة , ولم يترددوا في اثبات التعذيب بحق الشاب محمد الجندي , بل ذكروا تفاصيل الاصابات التي حلت به جراء التعذيب. حتي التبرير الذي ساقه رئيس الطب الشرعي الاسبق جاء صادما لنا ايضا , لان ضعف امكانات المصلحة لا يبرر تجاهل آثار التعذيب الظاهرة علي الجثة , ثم ان ذريعة الضعف تلك تفتح الباب للشك و الطعن في بقية تقارير الطب الشرعي , لان ما حدث بحق الجندي لا يستبعد ان يكون قد حدث مع غيره من الضحايا , الذين ربما برئ قاتلوهم ومعذبوهم بغير وجه حق.
هذه الخلاصة لا تفاجئنا لان لنا خبرة طويلة في سياسة تحكم جهاز الامن في كل الحلقات المتصلة بانشطته , بحيث تحولت كل العناصر التي تباشر تلك الانشطة الي اذرع للامن , تنفذ سياساته وتحمي ممارساته وتتستر علي اخطائه وجرائمه , و الطب الشرعي يمثل احدي هذه الحلقات , كما ان اطباء السجون يمثلون حلقة اخري , ورجال التحقيق و النيابة يعدون حلقة ثالثة. اذ عند هؤلاء جميعا وفي حالات استثنائية معدودة , ظلت كلمة الامن هي العليا , وفي تلك الحالات الاستثنائية فان كل من تمرد علي سلطة الاجهزة الامنية ابعد عن الطريق ورفع عنه الرضا.
لا نعرف ماذا ستقول اللجنة الثالثة التي تشكلت من خبراء مستقلين ونظائر لهم يمثلون مصلحة الطب الشرعي , لكن الذي نعرفه جيدا ان سياسة الاجهزة الامنية التي استمرت لنحو نصف قرن لا يتوقع لها ان تتغير خلال اشهر معدودة او سنتين. و الذي نعرفه ايضا ان تلك السياسة لابد لها ان تتغير بعد الثورة , لان استمرار التعذيب في السجون و التلاعب في تقارير قتل الناشطين يشكل وصمة عار في جبين الثورة , وما لم يتوقف التعذيب باختلاف صوره فان ذلك يعني اجهاض اهم احداث الثورة المتمثلة في الدفاع عن كرامة المصريين وحرياتهم.
نعرف كذلك ان ارادة تغيير تلك السياسة لم تتوافر بشكل كاف بعد , فقد تمت تبرئة الاغلبية الساحقة من رجال امن الدولة الذين اتهموا في قضايا التعذيب , كما اننا لم تشهد تعاملا حازما مع الذين اتهموا في قضايا قتل المتظاهرين , ناهيك عن تمييع مسالة القناصين الذين استهدفوهم من فوق اسطح البنايات. وذهبت حملة التمييع الي حد محاولة توجيه اصابع الاتهام الي عناصر حركة حماس , لاقناعنا بان الحركة التي كانت من اكثر المتحمسين و المستفيدين من الثورة هي المسئولة عن قتل بعض ابنائها.
ان قضية الشهيد محمد الجندي تختزل ازمة وزارة الداخلية بمختلف عناوينها صحيح ان خطوات عدة اتخذت لاقصاء عدد غير قليل من عناصرها وثيقي الصلة بسياسة المرحلة السابقة , لكن ثبت ان ذلك لم يكن كافيا. بقدر ما ثبت ان اعادة هيكلة الوزارة بالكامل باتت امرا ضروريا لا غني عنه وتاجيلها المستمر الضرر فيه اكثر من النفع.
انني اخشي ان تخلص اللجنة الخماسية الجديدة الي راي يختلف عما توصلت اليه اللجنتان الاولي و الثانية. وهو ما قد يضطر النيابة الي تشكيل لجنتين رابعة وخامسة , وربما تحولت القضية الي لغز يستدعي خبيرا اجنبيا لحله حين يكون الموضوع قد طواه النسيان. وتظل مشكلتنا قائمة ومتمثلة في حاجتنا الي شجاعة اعلان الحقيقة وعدم التردد في محاسبة المسئولين عن التعذيب و القتل اذا ثبت , الامر الذي يلقي في وجوهنا بالسؤال : من يعلق الجرس في رقبة القط؟
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق