والديمقراطية الحقيقية مثل الماكينة المركبة من مكونات متفاعلة : فيها مبادئ ' principles ' واجراءات ' procedures ' و الناتج عنهما من عمليات ' proceses ' . ولكن المعضلة اننا لسنا ديمقراطيين بما يكفي , اغلبنا اما فوضويون او مستبدون. اما الديمقراطية التي هي وسط بين الاثنين فضائعة من اغلبنا. ولا عجب , فحين يفتقد الناس الحكمة يميلون اما الي البذخ او البخل , وتضيع منهم صفة الكرم التي هي الوسط بينهما , او يميلون الي التهور او الجبن وتضيع منهم صفة الشجاعة. و الاسوا ان من يتصف بالبذخ يري من يتصف بالكرم فقط بخيلا , ومن يتصف بالبخل يري من يتصف بالكرم فقط مسرفا. وهي المعضلة التي افاض في شرحها ارسطو من 2500 سنة حين قال ان الفضيلة وسط بين رذيلتين , لكن اهل كل رذيلة لا يرون الوسط الا الرذيلة المضادة.
ولكن يضاف الي امتحان التحول الديمقراطي المتعثر , امتحان الصدام الايديولوجي. هناك حالة من الخوف , بعضها حقيقي وبعضها مرضي من الاخوان و الاخونة. لدرجة ان بعضنا لم يعد حتي يقبل فكرة ان يذكر الاخوان باي فضيلة مهما كانت صغيرة. حكي لي صديق من قيادات احد احزاب اليسار انه كان في احدي محافظات الدلتا وكان يتحدث في محاضرة عامة عن حاجة المعارضة لان تطور من ادوات تواصلها مع الجماهير كي تتمكن من الفوز في اي انتخابات مقبلة وضرب مثلا باداء المنتسبين لجماعة الاخوان المسلمين في انهم ما حلوا في مكان الا وبداوا يتواصلون مع الناس ويعرّفون انفسهم لهم ويتطوعون بتقديم المساعدة او النصيحة. وان هذا يعطي انطباعا جيدا عنهم , ويبدو انه استطرد قليلا في هذه النقطة. وعلي الفور وجد من هبوا في وجهه مهاجمين اياه لانه ' اخواني ' لدرجة انه ارتبك لثوانٍ لان آخر ما كان يتخيل ان يقال عنه انه اخواني وهو عضو سابق في مجلس الشعب عن قائمة منافسة للاخوان ومن القيادات المقاطعة للانتخابات القادمة.
لقد مالت ديمقراطية الصناديق و الانتخابات ناحية الاخوان , واخفق الاخوان في ان يرتقوا للمهمة الصعبة الملقاة علي عاتقهم ووقعوا في فخ الاستقطاب وجرّوا المجتمع اليه. وكان البعض يظن ان الاخوان هم الاكثر اعتدالا في تفسير الدين و الاكثر مرونة من الناحية السياسية مقارنة بالسلفيين مثلا , لكن الملاحظ ان السلفيين , وان كانوا اكثر تشددا في تفسير بعض الامور الدينية , لكنهم اكثر استعدادا للتجاوب مع متطلبات العبور من عنق الزجاجة السياسي و الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد. البعض يفسر التشدد الاخواني بان جناح ' القطبيين ' الاكثر تشددا يديرون مكتب الارشاد ولهم تاثير كبير علي الرئيس , الذي لم يعد له من يشير عليه الا من ينتمون لنفس الفصيل , و البعض يتحدث عن ان ما يحدث الآن هو جزء من معركة حتمية وطويلة بين المشروعين العلماني و الاسلامي علي ملكية البلاد , وان المعركة لن تمر الا بالدم. و البعض يري انها واحدة من متطلبات التغيير الجيلي وسياتي في اعقاب كل ' اربكان ' اردوغان اكثر نضجا منه , و الحاجة الآن للبديل الملائم سواء بين الاخوان مع نخبة اخوانية جديدة او بين الليبراليين مع نخبة ليبرالية جديدة اكثر سيطرة علي المهارات السياسية اللازمة لاحداث التوافق واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية.
امتحان الديمقراطية المختلط بامتحان الايديولوجية ليس امتحانا علي مستوي المجتمع فقط , ولكنه امتحان في مواجهة مؤسسات الدولة التي ترفع شعارين متلازمين : نحن مع الشرعية الدستورية ومع الامن القومي لمصر. اذا جاءت الانتخابات الشرعية باي فصيل الي السلطة , فمرحبا بهم , ولكن بشرط عدم قيادة البلاد لما يخل بالامن القومي لمصر سواء علي مستوي عنف اهلي داخلي او مغامرات عسكرية خارجية.
الامتحانان اثقل من ان يتحملهما من يقود دفة القيادة. مؤسسة الرئاسة بحاجة لاعادة هيكلة لانها تدخل معركة كبيرة باستعدادات قليلة , و الخاسر مصر.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق