حقائق أبعد من أحداث ميدان تقسيم فهمي هويدي


الحدث التركي لم يكن وحده الذي فاجانا خلال الايام الاخيرة , لاننا فوجئنا ايضا بسيل الكتابات و الفتاوي التي تعرضت له من جانب المتعجلين و المتصيدين و الهواة , و الاخيرون اصبحوا اكثر من الهم علي القلب.

وهو ما لاحظه في وقت مبكر الاستاذ احمد بهاء الدين الذي ازعم انه احد اهم واعمق الكتاب و المحللين السياسيين المصريين الذين ظهروا في الخمسين سنة الاخيرة. حتي سمعته ذات مرة يقول انه بعد ظهور الهواة في الساحة فانه بات يتساءل عما اذا كانت الكتابة لاتزال قيمة حقا , ام انها اصبحت تعبيرا عن قلة القيمة؟!

يحضرني السؤال بشدة في الوقت الراهن , الذي تتسم فيه كتابات بعض الهواة بجراة ملحوظة علي المعرفة تقترن بشح في التحصيل فضلا عن التدقيق , وجدت ذلك واضحا في اصداء الحدث التركي المتمثل في المظاهرات التي خرجت في استنبول وانقرة ومدن اخري في بداية شهر يونيو الحالي.

حين اسقط عليها كثيرون مشاعرهم ومواقفهم ازاء الحالة المصرية , واعتبروها مواجهة بين القيادات الدينية و المدنية , محورها قضية الديمقراطية , وهو ما ادعي انه اختزال وتبسيط يبتسر الصورة ولا يساعد علي فهم ما جري , في هذا الصدد ازعم ان فهم ما حدث في تركيا يتطلب استدعاء بعض المعلومات الاساسية التي منها ما يلي :

_ ان حزب العدالة و التنمية الحاكم ليس حزبا اسلاميا ولا هو جزء من الاسلام السياسي , رغم ان مؤسسيه ملتزمون دينيا , واغلبهم انتمي في السابق الي حزب الرفاه الذي اسسه نجم الدين اربكان تحت اسم آخر ' النظام الوطني ' في عام 1970 , لكنهم خرجوا من الحزب بعدما طوروا افكارهم واختاروا ان يشكلوا حزبهم المستقل , الذي ارادوا له ان يكون حزبا علمانيا يضم المحافظين في تركيا. وطبقا لاستطلاع للراي اجري في سنة 2009.

فان الذين يعتبرون انفسهم ' اسلاميين ' من اعضاء الحزب لا تتجاوز نسبتهم 27 في المائة , اي اكثر من ربع الاعضاء بقليل , اما الباقون فهم اما مواطنون مستقلون محافظون او كانوا اعضاء في احزاب يمينية اخري.

_ تحفل الساحة التركية ولاسباب تاريخية يطول شرحها بالتيارات المتصارعة علي مختلف الاصعدة السياسية و العرقية و المذهبية و الفكرية. بحيث يمكن القول بان البلد يعد خزانا للاستقطاب بمختلف اشكاله.

فثمة استقطاب المحافظين في مواجهة العلمانيين , و الليبراليين في مواجهة اليساريين و الثوريين , و السنة في مواجهة العلويين , و الاتراك في مواجهة الاكراد. وهناك تعصب ضد الارمن و اليهود. وفي اوساط القوميين بقايا تعصب ضد العرب ايضا. وهذا التشتت كان احد الاسباب وراء تتابع تشكيل الحكومات الائتلافية في تركيا , الذي اسهم في عدم الاستقرار السياسي طول الوقت.

وكانت ابرز فترات الاستقرار تلك التي اعقبت تولي حزب العدالة و التنمية للسلطة بعد فوزه بالاغلبية في الانتخابات التي جرت عام 2002. بسبب من ذلك فان احزاب الاقلية و الجماعات التابعة لها وقفت موقف المعارض له و المتربص به. ولانها فشلت منذ ذلك الحين في ان تتحداه في الانتخابات , فقد ارادت ان تنقل التحدي الي الشارع , وظلت شبهة الانتماء الاسلامي لبعض قادة الحزب الحاكم احدي المطاعن التي توجه اليه في كل مناسبة , حيث جري اتهامه بالسعي للاسلمة تارة ولاستعادة الحلم العثماني تارة اخري , ولاقامة الخلافة تارة ثالثة.

_ في الآونة الاخيرة ظهرت عوامل اخري للاحتقان اشاعت درجات مختلفة من التوتر و القلق في المجتمع التركي ولدي الطبقة السياسية بوجه اخص , وكان الشان السوري احد اسباب ذلك القلق ' في تركيا الآن حوالي 300 الف لاجئ سوري ' ولمعارضة موقف اردوغان من الثورة السورية ولمناكفته فان حزب الشعب الجمهوري المعارض شكل وفدا ذهب للقاء الرئيس السوري بشار الاسد.

وعاد الوفد ليعلن انه اذا كان بشار ديكتاتورا فاردوغان ديكتاتور ايضا. كذلك فان حوار الحكومة مع الاكراد و التوصل الي اتفاق لالقاء السلاح مع قيادة حزب العمال الكردستاني اثار غضب القوميين و الكماليين و العلمانيين المتطرفين وجميعهم كانوا ولايزالون ضد التصالح معهم او الاعتراف بخصوصية هويتهم.

_ هناك مصدر آخر للقلق في اوساط الطبقة السياسية يتمثل في سعي اردوغان الي تغيير النظام البرلماني الي نظام رئاسي في الدستور الجديد , يامل ان يكون هو اول رئيس للدولة في النظام الجديد , من خلال الانتخابات التي تجري في العام القادم ' 2014 ' .

من مصادر القلق ايضا في بعض الاوساط ان هناك ضيقا بما يعتبره الناقدون ' سلطة ابوية ' يمارسها اردوغان احيانا بحق المجتمع , دفعته مثلا الي التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين , حين حاول عبر حزبه منع الاجهاض لانه يريد ان يكون لكل اسرة ثلاثة اطفال علي الاقل لرغبته في زيادة عدد الامة التركية .

هذه الخلفيات تكمن وراء المظاهرات التي خرجت في بداية الشهر الحالي , و التي اعتبرها البعض انتفاضة شعبية ضد اردوغان و حزبه الحاكم غدا باذن الله نواصل -- ندخل الي ميدان تقسيم و نكمل الحكاية .

ليست هناك تعليقات :