طارق البشري يكتب عن وجهة نظره حول قرار المحكمة الدستورية العليا بخصوص قانون الانتخابات

من اشق ما يمكن علي مثلي ان يكتب في السياسات الجارية الآن. لان الموقف علي قدر هائل من الاستقطاب بين طرفين كلاهما في تقديري جانح عن التوازن , وحجم الاخطاء المرتكبة التي تمارس كبير جدا , ولا يترك هذا الوضع مجالا للمواقف المتوازنة ولا للحديث و التعليق الموضوعي علي الاحداث و التصرفات. وان اي نقد لاي تصرف يستغله الطرف الآخر بما لا يبقي وجها للاستقلال عنه او التميز عنه. واي تاييد لموقف لاحد الطرفين يعتبر انحيازا له لدي الطرف الآخر. وهذا الحال هو من سمات فترات ' الحروب الفكرية ' التي حذرنا منها من سنين بعيدة. فان اول افعال الحروب واهمها هو تحطيم جسور الاتصال بين الاطراف المتحاربة , وتكثيف حراسة الحدود وتعبئة الحراس علي الحدود بين الاطراف المتواجهة وسيادة معيار وحيد هو الانحياز المطلق او الصمت التام. ولكنني بمشيئة الله سبحانه واعتمادا عليه جل شانه لن انصاع لهذا الوضع.
●●●
اقول ذلك بمناسبة القرارين الذين اصدرتهما المحكمة الدستورية بشان مراجعتها لمشروعي قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون انتخابات مجلس النواب , اللذين كان احالهما عليها مجلس الشوري لاعمال رقابتها الدستورية المسبّقة عليهما طبقا لحكم الدستور.
وان شان المحكمة الدستورية هنا هو من اكثر الامور مدعاة للاستقطاب بين الطرفين , وهما لا يكفان عن الجنوح و التجاوز عن المواقف المتوازنة.
وانا من الذين يدافعون اشد الدفاع عن السلطة القضائية بهيئاتها جميعا وبمؤسساتها كلها , وارجو من الله سبحانه ان يعيننا علي ذلك. وانا من الذين يعرفون ما عسي ان تكون بعض الاحكام و التصرفات القضائية قد تجاوزت به ضوابط الاداء الوظيفي , بسبب ما ولدته الثورة من هياج واضطراب , ومن ذلك المحكمة الدستورية وغيرها من جهات قضائية اخري , ولكنني علي يقين تاريخي وعلمي ومهني , وعلي قناعة سياسية بان هذا العوار يعالج بالنقاش و الجدل و الفكري البناء مع الصبر و التزام الموضوعية , ولن يجدي معه ابدا الهدم و العدوان و التهديدات التي تصدر من بعض القوي السياسية , لاننا نتعامل مع مؤسسة ذات تاريخ وتقاليد وجمهور كثيف من العاملين بها المدربين علي النظر الموضوعي المتوازن , وستكون لهؤلاء الغلبة ان شاء الله. وان علاج المؤسسات النظامية التي من هذا النوع لا يكون بالهدم و القتل ولا بالجراحات الحادة , ولكن يكون بالمعالجات الدوائية الصبور. ونحن سنفقد اساسا من اسس تطورنا الحضاري اذا لجانا الي التدمير و التصفيات المؤسسية لكيانات حضارية نمت واستقرت لدينا عبر اجيال وبجهود علمية ومهنية تواصلت لنحو القرن ونصف القرن من الزمان.
في اطار هذا السياق , وبهذه المقدمة اللازمة ابدا حديثي عن القرارين المذكورين اللذين اتخذتهما المحكمة الدستورية.
●●●
اولا : انتهي قرار المحكمة الدستورية في الطلب رقم 2 لسنة 35 ' رقابة سابقة ' بشان مشروع قانون مباشرة الحقوق السياسية , انتهي الي عدم جواز حرمان ضباط وافراد القوات المسلحة وهيئة الشرطة من مباشرة الحقوق السياسية بشان الانتخابات , لان ذلك حسبما رات المحكمة يعتبر اخلال بالمساواة بين المواطنين واهدارا لمبدا المواطنة الذي تفترضه المساواة بين المواطنين جميعا , وان الاصوب و الادق في هذا الشان القول بان استعراض الاحكام الدستورية المتعلقة بكفالة الحق في المساواة بين المواطنين , واستقراء هذه الاحكام يفيد ان المساواة بين المواطنين يجب ان تنكفل لكل من ينتمون للدولة من الافراد و الجماعات بغير تمييز بينهم يكون سببه الاتصاف بوصف غير ارادي لم يكسبه الانسان بارادته او لا يكون بوسعه ان يتخلص منه بافعاله الارادية , وان الشائع الزائع في هذا الشان يتعلق بالصفات اللصيقة بالانسان كاللون او الناشئة من التشكل التربوي الجماعي العام كاللغة و الدين و الاصل العائلي او القبلي او الاقليمي , اما الاوصاف المكتسبة كالتعليم و التوظف او الاوصاف المفارقة كبلوغ سن معين لممارسة اعمال وانشطة معينة , فان التباين في التعامل بشانها لا يجرح مبدا المساواة بين المواطنين.
وان اختيار نوع معين من العمل مع بلوغ التاهل له , انما هو من الاعمال الارادية و المكتسبة التي تفرض علي المرء ما تقتضيه واجبات هذا العمل وفروضه حسب طبيعته وادائه الوظيفي و المهني , دون ان يكون في ذلك ما يخل بمبدا المساواة ولا ما يخل بحرية الانسان في خياراته.
فالقاضي مثلا ممنوع من ممارسة العمل السياسي و الحزبي دون ان يخل ذلك بالحق في الممارسة الحزبية العامة , وهو يستطيع في اي وقت ان يمارس العمل الحزبي بعد ان يتخلي عن وظيفته القضائية. و الطبيب ممنوع من اذاعة ما يتعلق بمرضاه من امور عرفها بموجب ممارساته الطبية , دون ان يخل ذلك بحق التعبير العام للناس عامة. وكذلك شان بالنسبة لضباط وافراد القوات المسلحة و الشرطة , يمنعون من ممارسة العمل الانتخابي حرصا علي الحيدة الواجبة منهم بحسبانهم عمود الارتكاز للدولة واجهزتها وما يتعين ان تكون عليه هذه الاجهزة من استقلالية وناي عن الصراعات الحزبية بين التيارات السياسية المتصارعة.
واذا كان ثمة دول ونظم حكم تجيز لافراد جيشها وشرطتها ممارسة العمل الانتخابي , فان هذا الامر امر خيار سياسي واجتماعي عام , يتعلق بالاوضاع الاجتماعية و السياسية و الثقافية العامة في كل بلد حسب تجاربه وحسب علاقات مجاميعه وحسب دور اجهزة الدولة في المجتمع وحسب السياق التاريخي لهذا البلد. وهو من ثم امر يتعلق بالخيارات السياسية و التقديرات السياسية التي تملكها اجهزة الحكم و التشريع , دون ان تكون مجالا لقول بمخالفة دستورية. ويكون التعرض لها من جانب سلطات الرقابة القضائية علي الدستورية , هو نوع من انواع الدخول في سلطة التقدير السياسية التي لا تملك السلطة القضائية الجنوح اليه.
●●●
ثانيا : نصت المادة 10 من مشروع مباشرة الحقوق السياسية في بندها السادس علي ان ' تختص اللجنة العليا للانتخابات بوضع القواعد المنظمة للدعاية الانتخابية بمراعاة حظر الدعاية الانتخابية القائمة علي التفرقة بين المواطنين بسبب الدين او الجنس او الاصل ' . وهو نص من الواضح انه يتجاوب مع البند الثاني من المادة 6 من الدستور التي تقضي بانه ' لا يجوز قيام حزب سياسي علي اساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس او الاصل او الدين ' .
ولكن المحكمة الدستورية اعترضت في قرارها علي هذا النظر باعتبار انه يلزم ان يتسع نطاق الحظر الوارد بالنص التشريعي للمشروع ليشمل مطلق الاستخدام للشعار الديني او العقائدي كما تراه المحكمة من ان هذا الاستخدام ' يؤدي الي التفرقة بين المواطنين علي اساس الدين او العقيدة , لان اتباع كل دين سيستخدمون الشعار الذي يُعلي من شان دينهم , الامر الذي يهدد مبدا المواطنة من اساسه , ويضيف سببا جديدا لاشاعة وتعميق الفرقة و الانقسام بين المواطنين ' .
وتزيد المحكمة علي اسباب اعتراضها علي نص المشروع انه ' قد اغفل حظر استخدام الشعارات او الرموز او القيام بانشطة للدعاية الانتخابية ذات طابع ديني او عقائدي في ذاته ' . لان ذلك في تقديرها ' ينال من الوحدة الوطنية ويناقض مبدا المواطنة ويخل بالحق في الانتخاب و الترشيح ومباشرة الحقوق السياسية ' . وانه يعوق المفاضلة بين المرشحين علي اساس البرامج الانتخابية ويخل بمبدا تكافؤ الفرص.
كل هذه الكوارث الجسام رتبتها المحكمة في اسباب قرارها علي مبدا استخدام شعائر الدين الذي ينتمي اليه المواطن واستخدام رموز هذا الدين , وعبرت عن ذلك باستطراد اراه يتجاوز ما تتعين ان تكون عليه اللغة القضائية من ضبط وتوازن. ان الدين و المعتقد هو اساس القيم التي يصدر عنها الانسان , وان اسسه واحكامه تشكل لدي الانسان المرجع الاعلي الذي يهتدي به في حكمه بالصواب و الخطا علي السلوك البشري و التصرفات الاجتماعية , ايا كان هذا الدين و المعتقد.
وانا اكاد اقول انه حتي غير المتدين بدين سماوي , فان له دينه الوضعي او المادي الذي يصدر عنه في احكامه علي الامور. ولذلك فان اي انسان ايا كان دينه ومعتقده لا يستطيع ان يتجرد عما يعتقده اساسا ومصدرا ومرجعا للحكم علي الامور و التصرفات , ولا يستطيع ان يمتنع عن التعبير عن هذه المرجعية في سلوكه وتصرفاته.
ان الانسان من خلال قيمة ومفاهيمه الدينية و العقيدية يسلك وينهج مسلك الاحترام ومنهج التقدير لذوي الاديان الاخري ويدعم بذلك روح المواطنة. وان آفة الآفات ان ننظر الي الدين بحسبانه امرا يناقض الانتماء الوطني , وان نزرع بذور التعارض و التنافي بين هذين الانتماءين اللذين نجمعهما معا ونتعايش بهما علي الدوام. وان اضر ما يضار به النزوع الوطني هو ان نقيمه علي اساس لا ديني او ان نثير التعارض بينه وبين التدين باي دين يتبعه المواطن.
وان كل ما ورد بالدستور من مبادئ سامية تتعلق بالمساواة وعدم التمييز و الحيدة و النزاهة مما اشارت اليه المحكمة في قرارها عن المواد 5 و6 و9 و33 و55 من الدستور , ان كل ذلك مشمول بالرعاية و الاحتضان بحكم المادة 2 من الدستور التي تنص علي ان الاسلام دين الدولة , وان مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع , وكذلك المادة 3 التي تؤكد علي شرائع المصريين من ذوي الاديان السماوية المسيحية و اليهودية بحسبانها المصدر الرئيسي لاحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية. وان مصر منذ عرفت النظام الدستوري ومارسته كان دستورها يؤكد ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام , وهو مبدا اجمعت عليه دساتير مصر منذ كان لها دستور مكتوب وممارس.
ويبقي سؤال عن المؤدي الواقعي التطبيقي كما تتطلبه المحكمة من وجوب الحظر الكامل للشعارات و الرموز و الانشطة ' ذات الطابع الديني و العقائدي في ذاته ' , هل يشمل هذا القرار بمنطقة ان ذكر الفاظ ' البسملة ' في صدر منشور انتخابي يعتبر استخداما لشعار ورمز ديني.
وهل تضمين اي خطاب او خطبة او بيان لآية قرآنية يشمل الحظر المذكور. و الحق ان كان الجواب بالايجاب فلا كان الترشح ولا كان الانتخاب وحسبنا الله ونعم الوكيل.
●●●
ثالثا : ثمة ملاحظة قانونية ايضا تتعلق بالمسالة السابقة , ذلك ان المحكمة في اسباب قرارها السابق عابت علي نص المشروع انه ' اغفل حظر استخدام الشعارات او الرموز -- -- ' بمعني ان المحكمة تعيب علي المشروع انه لم يتضمن حكما تراه مناسبا , وبمعني انها لا تكتفي بمراقبة مدي دستورية الحكم الوارد بالنص التشريعي , انما تعمل علي ان تلزم السلطة التشريعية باصدار ما تراه من احكام تشريعية.
ونحن نعلم ان ولاية المحكمة هي في الاساس ' ولاية الغاء ' بالنسبة للاحكام التشريعية التي تكون صدرت مخالفة لحكم او لمبدا دستوري , كما ان ولاية القضاء الاداري ولاية الغاء ايضا بالنسبة لقرارات السلطة التنفيذية التي تراها مخالفة للقانون. وقد مد القضاء الاداري ولاية الالغاء لما يصادفه من حقوق انشاها القانون لافراد من الناس ثم حرمتهم منها السلطة التنفيذية , فخلص القضاء الاداري من ذلك بان ثمة قرارا سلبيا من جهة الادارة بالامتناع عن الوفاء للافراد بما منحهم القانون اياه من حقوق عينية محددة. وهذه سلطة يمارسها القضاء الاداري في نطاق ضيق وحذر.
وثمة بعض احكام دستورية من محاكم في البلاد المختلفة , وثمة آراء في الفقه الدستوري تجيز اعمال هذا النظر المتوسع , وفي مصر بعض التطبيقات له , ولكن يبقي وجوب الحرص علي الحذر الشديد في استخدام هذا النهج , لان سلطة المشرع التقديرية اوسع كثيرا من سلطة رجل الادارة , ولان التشريع عمل نيابي ذو اتصال عريض بالسلطة السياسية وتقديرات السياسة وما يسمي باعمال السيادة , ولان التشريع يولد نصوصا عامة ومجردة وتصدر عن توصيات النيابة الشعبية وتتصل بالتنظيم الديمقراطي , علي خلاف قرارات رجال الادارة. وانا لم اعرف في سوابق المحكمة الدستورية ما بلغ هذا الحد الذي بلغته المحكمة في قرارها الاخير , بملاحظة ان النص المعترض عليه لم يكن الا ترديدا للنص الدستوري وانه المتعلق بهذا الشان وهو الا يكون ثمة تفرقة بين المواطنين بسبب الدين او الجنس او الاصل. فما هو المطلوب اكثر من ذلك.
●●●
رابعا : نقطة اخيرة وشكلية انهي بها هذا الحديث الغاضب , وهي ان قراري المحكمة المذكورين قد نشرا في الجريدة الرسمية. وانا افهم ان ينشر في الجريدة الرسمية احكام المحكمة الدستورية بالغاء او رفض الغاء قوانين صادرة ومعمول بها. لان ذلك من اعمال التشريع التامة. اما قرار المحكمة بالنسبة للرقابة المسبقة علي قوانين الانتخاب فهي تتعلق بنصوص لا تزال مشروعات قوانين ولم توضع في نصوص. لذلك لا اعرف وجها لنشرها في الجريدة الرسمية التي تقتصر علي القوانين وما في درجتها وحكمها و الاحكام الخاصة بها فقط. ' نشرا في العدد 21 مكرر ا في 26 مايو سنة 2013 ' .
و الحمد لله ...
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق