ألف نعم للرمادية مصطفى النجار



في المجتمعات التي تعاني من مناخ الاستقطاب وعدم النضج في ممارسة الديموقراطية بما يحمله ذلك من تعصب للآراء واقصاء للمختلف و التشكيك فيه يتحول المجتمع ظاهريا الي معسكرين , كل منهما يعبر عن طرف من اطراف الصراع بينما تظل الكتلة الاكبر من المجتمع خارج هذا الصراع ولا تميل لاي من طرفيه وتعلو اصوات المتصارعين حتي يحسبها البعض معبرة عن عموم المجتمع و الحقيقة انها لا تعبر الا عن اصحابها بينما لا نسمع صوت الشريحة الاكبر من المجتمع التي تظل بعيدة عن المعسكرين ولا تجد من يعبر عنها ويوصل صوتها.

من السهل ان تنحاز لاحد المعسكرين ولكن الصعب ان تتخذ لنفسك طريقا بين هؤلاء وخطا فاصلا يجعلك لا تفقد موضوعيتك وعقلانيتك , فالوسطية طريق يدمي قدمي سالكه.

_ _ _

الوسطية ليست موقفا عابرا بل هي منهج حياة يرفض الافراط و التفريط و الغلو و التشدد , الوسطية اعتدال بين تطرفين وعدل بين ظلمين , وهي تجمع يشمل عناصر العقل و العدل من الاقطاب المتقابلة لتكون موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين و المتصارعين , كما ان الوسطية منزلة بين طرفين كلاهما مذموم , فالشجاعة وسط بين الجبن و التهور , و السخاء وسط بين التبذير و التقتير.

البحث عن الوسطية الآن في مصر صعب المنال بعد ان ضرب الاستقطاب بآفاته ليصيب النخب السياسية التي صارت تشبه فريقي الكرة المتنافسين بجماهيرهما المتطرفة التي تشجع فريقها بضراوة وترفض النيل منه ولا تتخيل انه يخطئ ابدا ولا تفكر في مراجعة نفسها لتحسين ادائها بل تركز جل جهدها في الهجوم علي الفريق الآخر وابراز عيوبه ونقائصه.

_ _ _

الصراع السياسي في مصر تحول الي صراع صفري وليس تنافسيا , اما ان تحصل علي كل ما تريد واما ان لا تحصل علي شيء , واذا حاول البعض تقريب المسافات و الوصول لقواسم مشتركة يتهم بانه قد فرط وباع وخان وتنازل وضيع الحقوق.

بين معسكري الاستقطاب يحاول البعض التمسك بوسطيتهم وموضوعيتهم بعيدا عن اللا عقلانية التي يصنعها العداء و الكراهية المتاصلة بين المعسكرين ولكن يدفع هؤلاء الثمن لانهم لا يرضون احدا من الطرفين , ربما تكون من هؤلاء الوسطيين اذا كنت من الذين تتجسد فيهم الصفات الآتية :

_ اذا بحثت عن الانصاف وتحليت بالموضوعية فلم تمل الي هؤلاء ولا الي هؤلاء وتمسكت بالمبادئ المجردة وجعلتها بوصلتك التي تدور معها اينما دارت.

_ اذا رفضت الانصياع للامواج الهادرة التي تريد اجبارك علي تغيير اتجاهاتك لتقف تحت راية من رايات المعسكرين.

_ اذا وجدت المزايدة و التخوين و التشكيك المستمر في مواقفك ونواياك من كل الجانبين , اذا وجدت التهليل و الاحتفاء باحد مواقفك التي رآها احد المعسكرين لصالحه وفي اليوم الثاني وجدت السب و الهجوم من نفس المعسكر لانك تحدثت بموضوعية عن اخطائه وهم لا يريدون الا عزفا لهم في اتجاه واحد يبرؤهم من الخطا ويقدس افعالهم.

_ اذا اتهموك بالتلون و البحث عن المصالح الشخصية , اذا تركوا نقاش افكارك وانشغلوا بالهجوم علي شخصك , اذا امتهنوا الكذب لتشويهك و الطعن في تاريخك واختلاق الافك بعد ان عجزوا عن مواجهة حجتك ومنطقك.

_ اذا انشغلوا بهدمك بدلا من انشغالهم بالبناء ومنافستك فيما تتقدم فيه , اذا كان يؤلمهم ويوجعهم انك صاحب راي لا تنقاد ولا ترضي ان تنضم لجموع القطعان المنقادة.


_ اذا وجدت كل هذا فاعلم انك علي طريق الوسطية فتمسك به ولا تابه لهم وما يقولون , ولا تجعل الحرب النفسية التي يمارسونها ضدك تضعفك وتجعلك تتشكك في سلامة الطريق , انت علي الصواب وهم قد بعدوا عنه ومالوا.

سيسخرون منك ويتهمونك بالرمادية و الغموض و التقلب ولكن لا يفت هذا في عضدك فبضاعتك التي تحملها تستحق ان تصبر وتحتمل الحماقات و السخافات وهؤلاء السائرون في دروب الاستقطاب و الغلو علي اليمين و اليسار سيتعثرون كثيرا وسيتذكرون حديثك ويقولون في قرارة انفسهم : لو سمعنا وعقلنا ما يقوله ما انتهي هكذا بنا الطريق.

_ _ _

انت لا تعبر عن نفسك بل عن الملايين الصامتة التي ترفض المبالغة و التطرف و الغوغائية وغياب العقل و الموضوعية , انت تعبر عن كل الذين لا يرون انفسهم متطابقين مع هذين المعسكرين ويبحثون عن طريق آخر يجب ان تكون انت حاديه ودليله.

ربما لا يكون منهجك الوسطي براق وجذاب للذاهبين الي صناديق الانتخابات الآن وربما يميلون الي احد طرفي الاستقطاب ولكن هذا لا يعني ان بمنهجك عوار , بل ان المجتمع به علة مؤقتة ستزول عن قريب لتسقط كل اطراف الاستقطاب ويتصدر صوت العقل و الوسطية.

اثبت علي دربك واعتز برؤيتك ووسطيتك , لا تنكسر مهما حاولوا كسرك , لا تتراجع مهما توالت الضربات عليك , انت مستهدف من الجانبين لانك تمثل خطرا حقيقيا عليهم , ثبت ثوابتك ولا تساوم عليها , وتحرك في دوائر متغيراتك وابحث عن مصلحة الناس قبل اي شيء , وان اتهموك بانك رمادي فقل لهم بفخر , نعم للرمادية اذا كانت تعبر عن الوسطية و المجد للرماديون.

ليست هناك تعليقات :