غير الحديث عن الثلاثين من يونيو و ماذا فيه و ماذا بعده أيمن الصياد


اعرف ان احدا ليس لديه استعدادٌ ان يسمع او يقرا غير عن ' الثلاثين من يونيو ' , ماذا فيه -- ثم ماذا بعده. ولكنني احسب ' وسط كل هذا الضجيج ' ان العطش او الظلام لن يفرق بين مصري وآخر. كما هو الموت , حين يردنا جميعا الي التراب , ثم يردنا الي الواحد الاحد فيحكم بيننا ' -- فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ' . لذا اخترت ان استكمل ما بداته الاسبوع الماضي عن ' النيل ' الذي اضعناه استهانة واستعلاء واستكبارا , ثم ها نحن بعد ان استهان من استهان ' بوحدة الجبهة الداخلية ' , التي هي شرطٌ لابديل عنه لمواجهة التحديات الخارجية نتخبط في طريق , بدا وكاننا لا ندرك حدودَه او ابعادَه.

_ _ _

لا اعرف ان كان هناك من يدرك حقا حقائق العصر ' وادواته ' فلم يكتف بخطب تهديدٍ لن يتجاوز ' فعلُها ' واقعيا المدي الذي يمكن ان تصل اليه مكبرات الصوت. ولكن هناك مشكورا ' وهو دبلوماسي دولي رفيع ' من ارسل الي برابطٍ لحوار تليفزيوني مهم اجرته شبكة تليفزيونية اثيوبية مستقلة مع السيدة Lori Pottinger وهي رئيسة تحرير لعدد من المطبوعات المتخصصة المهمة , بينها International Rivers’ quarterly وWorld Rivers Review و الحوار الذي يكشف مخاطر السد من وجهة نظر علمية ' محايدة ' , يستوجب اهتمامنا , كما قد يحتاج الي مقال مستقل يعرض ما فيه.

ولكنني ردا علي من تفضل , تعليقا علي مقال الاحد الماضي بالسؤال عن الجوانب القانونية للموضوع ' وحجج الطرفين ' , عدت الي جون ووتربري John Waterbury وهو استاذ للعلاقات الدولية في جامعة برنستون Princeton , تعلم العربية في مصر. وعاش في منطقتنا عشر سنوات كاملة وله كتابان ربما كانا الاهم في الموضوع. الاول : Hydropolitics of the Nile Valley, 1979 و الثاني : The Nile Basin : National Determinants of Collective Action 2002

قبل ان يوضح لنا الاكاديمي ذو الشعر الابيض ' عمره 84 عاما ' التاريخ القانوني للمشكلة , ذات الطابع السياسي و الاقتصادي بالدرجة الاولي , ينبهنا الي حقيقة ان دراسة العلاقات الدولية تركز منذ وقت طويل علي الظروف التي قد تدفع دولا ذات سيادة ' للتعاون فيما بينها ' لايجاد حلول لقضايا مثل تلوث الهواء او البحر , او منع التسلح , او انبعاثات غازات الدفيئة , او ادارة الانهار التي تجري عبر الحدود -- الخ. وكيف يمكن للسياسة ان تحسن اوضاع اصحاب الحصص دون لجوء للحرب او للخسارة الاقتصادية.

يشير ووتربري الذي يلح علي ان ' التعاون ' اصبح السبيل الوحيد الواقعي للتعامل مع الازمة , الي ان اعادة التفاوض علي اتفاقية 1959 قد يمثل طريقا للخروج من المعضلة , خاصة وان هناك تاريخا معروفا لتعديل الحصص. فحتي عام 1929 لم يكن هناك اي ميثاق يحكم استخدام مياه النيل بين اصحاب الحصص الرئيسيين. وكانت مصر صاحبة حق لا يناقش ' لكل ' التدفق الطبيعي للنهر. اي ان مصر في ذلك الوقت كانت تحصل عمليا علي 100 في المائة من مياه النيل حسب مقياسها في اسوان.

في مايو 1929 بعد اربع سنوات من اغتيال المصريين للسردار السير لي ستاك قائد القوات المسلحة السودانية _ المصرية المشتركة , بدا البريطانيون الذين كانوا يحكمون مصر و السودان في تطبيق اتفاقية مياه النيل. فيما بدا وكانه نوعٌ من العقاب علي حادث الاغتيال -- وقد قدرت الاتفاقية ان المياه المسموح باستخدامها من النيل ستكون بمعدل 52 بليون متر مكعب كل سنة , وحدد حق مصر المكتسب عند 48 بليون متر مكعب و السودان 4 بلايين متر مكعب. اي ان مصر اكتسبت حقا يمثل 92 في المائة مقابل 8 في المائة للسودان.بعد ذلك بثلاثين سنة اعيد التفاوض لتحصل مصر علي 55,5 بليون متر مكعب بنسبة 66 في المائة من المياه القابلة للاستغلال وارتفعت حصة السودان الي 22 في المائة . وحدد 12 في المائة من المياه القابلة للاستغلال للفقدان بالتبخر و التسرب في خزان السد العالي. كما قضت الاتفاقية بان اي زيادة عن معدل التدفق الطبيعي ' او نقصان ' يجري قسمتها مناصفة بين الدولتين. ثم كان ان تنبا المتفاوضون حول الاتفاقية ' 1959 ' انه اذا طالبت دول اعالي حوض النيل بحصتها من المياه فان ' الخسارة ' سوف تقسم مناصفة بين الدولتين.

ويري ووتربري استاذ العلاقات الدولية ان السياسة تعرف دائما ان هناك مساحة للحركة بين التاويل القانوني الجامد للحقوق المكتسبة وبين تاويل ياخذ في اعتباره دعاوي الاستخدام العادل. وان السياسة اذا اتسمت بالحكمة تنظر بالضرورة الي ماهو ' ابعد من انفها ' . وهكذا كان عندما اعطي المصريون في حينه ' 1959 ' قيمة لعلاقات ودية وطبيعية مع سودان كامل السيادة.

_ _ _

يبدو الامر اذن وكانه صراعٌ بين حقائق الجغرافيا وميراث التاريخ. فقانونا هناك مبدآن متناقضان فيمايسمي القانون العرفي للمياه الدولية. احدهما يسمي ' الحقوق المكتسبة ' و الآخر ' الاستخدام العادل ' . الحقوق المكتسبة ينادي بها اصحاب الحصص الذين طال استخدامهم لمصدر مائي -- وهو مبدا تاريخي يلخص احيانا بمقولة : الحق الاول للمستخدم الاول. وهي المقولة التي تمثل حجر الزاوية في الحجة المصرية. فقد كانت مصر المستخدم الاول من ايام الفراعنة. ولا احد بوسعه ان يجادل في هذا. ثم انها ولمدة اربعين سنة استخدمت 5.55 بليون متر مكعب.

علي الناحية الاخري , فان اثيوبيا و السودان يجادلان في الاستخدام العادل و التطور المحتمل , فحقائق الجغرافيا تقول ان لديهما مساحات هائلة من الارض التي لم تستغل بعد او كان استغلالها بدائيا. وتقول اثيوبيا طوال الوقت ان عرقلة تطورها بالحد من حقها في مياه النيل هو مسالة غير عادلة وان الحقوق المكتسبة ينبغي ان تفسح الطريق للقسمة العادلة.

وترد مصر عادة بان هذه الدول , بعكس مصر غزيرة الامطار. وان بامكانها الاعتماد علي امطارها في تطوير الزراعة. الا ان هذه الحجة رغم صحتها كانت تصطدم كل مرة برد اثيوبي يشير الي ان بناء السدود و الخزانات يكون ايضا لتوليد الطاقة الهيدروليكية. كما ان سقوط الامطار موسمي وغير متساو في توزيعه. مما يقتضي بناء سدود لتخزينه.

وحسب جون ووتربري فمن الممكن لمصر قانونا , وتطبيقا لمبدا ' الحقوق المكتسبة ' ان تظل متمسكة بالامر الواقع , ولا تقدم اية تنازلات لدول المنبع. ولكن , واقعيا يمكن ايضا لدول المنبع خاصة اثيوبيا ان تتصرف بدون موافقة مصر. وهذا قد يعني اقامة مشروع او اكثر لتوجيه المياه للزراعة او الطاقة الهيدروليكية او كليهما. في القانون الدولي وفي التطبيق , الافعال احادية الجانب التي تؤثر علي دول المصب غير مقبولة. وبالتاكيد لن يمول البنك الدولي مشاريع لا تنال رضا كل الدول المتشاطئة. ولكن بعض الدول قادرة علي تمويل مشاريعها من مواردها الخاصة. كما ان هناك دولا راغبة في تمويل مشاريع كجزء من اتفاقيات تجارية اوسع حتي في غياب قبول دول الحوض. ويجب ملاحظة ان ' القبول ' في القانون الدولي له حدود. كما لا يوجد حق مطلق للفيتو في احواض الانهار الدولية.

خلاصة القول اذن , كما ذكرنا في مقال الاحد الماضي ان السياسة لم تكن ابدا قانونا فقط. , بل مكان ' ومكانة ' . وان العامل الحاسم في المعادلة هنا لم يعد مقياس النيل ارتفاعا وانخفاضا , او بندا في اتفاقية هنا او معاهدة هناك. وانما ' قدرة ' كل طرف علي ان يصل الي اهدافه. ولهذه القدرة عوامل ومعايير نقراها في كتب التاريخ , ونرسمها في خرائط الجغرافيا -- ويعرفها اساتذة العلاقات الدولية.

_ _ _

وبعد --

فقد حمل لنا شريط الاخبار هذا الاسبوع , ان اديس ابابا بادرت بتصديق برلمانها ' بالاجماع ' علي اتفاقية عنتيبي التي تنهي زمن ' الحصص التاريخية ' لدولتي المصب , مصر و السودان. كما خرج يوري موسيفيني , الرئيس الاوغندي داعيا الدول الافريقية ان تحذو حذو اثيوبيا , ويقول : ' انصح القاهرة ان تكف عن هذه التصريحات الاستعلائية ' , كما ورد بجريدة ' الشروق ' بالامس.

_ _ _

ربما يذكر البعض رائعة احمد شوقي التي غنتها ام كلثوم ' 1949 ' و التي استفتحها بسؤاله المعجَب المندهش : ' مِن اَيِّ عَهدٍ في القُري تَتَدَفَّقُ؟ ' فهل يا تري جاء علينا زمن سنضطر فيه الي تعديل ' له دلالته ' في السؤال ليصبح قلقا : ' الي اَيِّ عَهدٍ في القُري تَتَدَفَّقُ؟ ' -- ' ؟ ' .

ليست هناك تعليقات :